بتسامحه لم يخش مواجهة الأصولية، وبدأبه على الزهد تصدّر المشهد بجدارة، ففي الملمّات كان يتقدّم المسيرات والمظاهرات والاعتصامات، كما كان يمشي برجليه عبر طريقه المعتاد كل يوم غير آبه بالسفاسف ولا بالهيلمانات ولا بالتهديدات ولا بالحراسات.
كان صوتاً صارخاً ضد الهمجية والعنف والإرهاب، وكانت ميزته الاعتداد بذاته، فيما استمر رغم كل التحوّلات على مدى أكثر من أربعة عقود، مربّياً مشهوداً له باستيعاب المختلف وبالتشبُّث بروح الحوار والعمل على تنمية إحساس المواطنة، ولذلك كتبت له «نهاية الرجل الشجاع».
وأما اغتياله فإنه يمثّل خسارة للعقل الحكيم، وللوعي السياسي الشفّاف، كما هو في المقام الأول خسارة فادحة لحلم الدولة المدنية الحديثة الذي كان أحد أبرز المخلصين له.
ذلك هو الدكتور محمد عبدالملك المتوكل الذي فُجعت اليمن باغتياله برصاص مسلّح ملثّم كان على متن دراجة نارية في شارع «الزراعة» وسط العاصمة صنعاء مغربية الأحد الماضي؛ في الوقت الذي لايزال فيه حظر التجوال بالدرّاجات النارية مستمرّاً بعد قرار اللجنة الأمنية العليا وتفاقم التدهور الأمني الذي تشهده البلاد.
إن اليمن اليوم مكلومة من أقصاها إلى أقصاها لهذا المصاب الجلل، فالواضح أن ثمّة من لا يريد للعقل السياسي اليمني المدني أن يستمر، ولذلك تم اغتيال الدكتور محمد عبدالملك المتوكل.
وفي ثنايا الدمعة الحرّى، يجب أن يعمل كل يمني شريف من أجل تعزيز التعايش والنهوض بالسلم الاجتماعي، كما في ثنايا اختناقنا بالدمعات يجب أن ندرك أن الفقيد الجليل انتصر على قاتليه الأشرار الذين لم يعد لديهم سوى إخراس الآخرين بواسطة القتل بعد الإفلاس عن الحوار والسياسة والتعاون الخلّاق لحل الأزمات العميقة التي تزخر بها اليمن.
كذلك يجب أن نجعل من هذه اللحظات القاسية التي تمرُّ بها اليمن زوّادة للتمسُّك بالقيم العليا، واعتبار اليمن على رأس سلّم الأولويات من أجل تفويت الفرصة على من يريدون استغلال حالة التشنُّج السائدة خدمة لمصالحهم في تمزيق النسيج الاجتماعي للبلد، فالجريمة لم تستهدف شخص المتوكل فقط؛ بل استهدفت أيضاً اليمن ككل.
ولطالما عُرف الراحل بتقديم كل ما يستطيع تقديمه من أجل التوفيق بين المكوّنات والقوى في الساحة السياسية، كما لطالما عبّر عن قناعاته بوضوح دون وجل، وله اعتباراته التي يجب أن تُحترم مهما كان الاختلاف معها كونها تنبع من إنسان مسالم مدني له حيثياته وسقفه في الخصومة، وباعتباره من ذلك الصنف السياسي النادر الذي لا يستسيغ العداء والضغن والكراهية، بقدر اعتباره السياسة أداة توازن وأداة تقريب وأداة أخلاق.
لقد ذهب الدكتور محمد عبدالملك المتوكل شهيداً، وكان من أهم الذين عرفتهم الحياة السياسية اليمنية ضد الثأرات والأحقاد وهدر الدماء.
والحال هو أن هذا الاغتيال الآثم سيظل يجدّد خلايا الذاكرة بشخصية فريدة في التسامح وإرادة التغيير والتجديد والمعرفة والحُب، وليس سهلاً بالتأكيد على أسرة الفقيد وطلّابه وزملائه وأصدقائه تحمُّل هذه الجريمة بسهولة؛ بل لديهم الحق كله في معرفة الحقيقة ومن هم الجُناة الأوغاد ومراميهم الخبيثة من سفك دم رجل أعزل لم يحمل يوماً سلاحاً سوى الكلمة والرأي.
في السياق؛ لا أتصوّر أن تمحي ابتسامة الدكتور العبقة من مخيلتي ومشهده الأخير الملطّخ بالدماء ما حييت، وهو المشهد الذي يختزل أحلام أجيال من اليمنيين عاشوا من أجل السلام.
وإني أشعر بالإكبار – على وجه التحديد – لروح النجل الأكبر للراحل ريدان محمد عبدالملك المتوكل وهو في لقاء تلفزيوني معه - عقب الفاجعة بساعات قليلة - يظهر في حالة سمو عن مأساوية الفعل الذي أودى بأعز أحبابه على وجه الدنيا، متزناً ومسؤولاً وكبيراً كوالده الذي عرفناه حكيماً عند الأحداث الجسام، يظهر متماسكاً وصبوراً ومحتقراً القتلة، كما يظهر – وهذا هو الأهم - مفوّتاً جملة مخطّطات مشبوهة كانت تنوي الاستفادة - كما تفيد عديد مؤشرات - من اغتيال الدكتور محمد عبدالملك المتوكل.