عندما نعارض الضربات الجوية الامريكية لليمن, وقتلها للمواطنين اليمنيين خارج القانون, انطلاقاً من هويتنا الإسلامية, يحاول البعض التقليل من هذا المضمون واحياناً السخرية منه, واذا رفضنا تلك الضربات من باب الانتصار للقومية العربية, ورفض التدخلات الغربية, نتهم بالرجعية, واذا قلنا ذلك مخالف للدستور والقانون اليمني, أفحمونا بتصريحات الرئيس هادي الأخيرة في واشنطن واعلان بعض الجهات الرسمية أن تلك الضربات تتم وفقاً لاتفاقيات مع الحكومة اليمنية, واذا قلنا : ليس من حق أحد التنازل عن سيادتنا, قيل لنا : بل تعاون في مكافحة الارهاب وهو في مصلحتنا.
سنخاطب هؤلاء بمنطقهم, منطق المصلحة, بعيداً عن ما تمليه علينا عقيدتنا الاسلامية وقوميتنا العربية.
اذا راجعنا سجل التدخلات العسكرية الأمريكية في الكثير من الدول منذ بروز امريكا كقوة رئيسية في العالم خصوصاً بعد الحرب العالمية الثانية, سنجد أنها تدخلات مأساوية, فمن الحرب الأميركية ضد كوريا في 1951م لصد المد الشيوعي، التي بلغ عدد خسائرها البشرية ما بين قتيل ومفقود وجريح نحو أربعة ملايين شخص، الى حرب فيتنام في 1964م التي بلغ عدد الضحايا فيها خلال سنوات الحرب الثماني مليوني قتيل وثلاثة ملايين جريح وما يناهز 12 مليون لاجئ, سنجد ان تلك التدخلات ابادت الكثير, لكنها فشلت في تحقيق الأهداف "النبيلة" التي اعلنت عنها أمريكا في كل حرب على حده.
قد يقول أصحاب منطق المصلحة: تلك تدخلات كانت مرتبطة بالحرب الباردة, ولا دخل لها بمكافحة الارهاب, والمقارنة بينهما غير صحيحة.
نقول لهم : في تلك الحروب كانت امريكا تعلن عن أهداف " نبيلة" لتبرر تدخلها, ولم تقل أننا ندافع عن مصالحنا ونواجه المد الشيوعي, ومع ذلك سنجاري اصحاب ذلك المنطق ونقول لهم أن ظروف تلك التدخلات وتدخلات اليوم في بلادنا تختلف, وان كانت تجمعهما نبل الشعارات و مأسوية النتائج.
وبالعودة الى التدخلات المرتبطة ب "مكافحة الارهاب", وحتى تكون مقارناتنا صحيحة, نقول لأصحاب ذلك المنطق: تدخلت أمريكا بنفس ذلك الشعار, وضد بلدان اسلامية, ابتداءً من الصومال مروراً بأفغانستان والعراق, فما الذي انتجته تلك التدخلات؟
الصومال الى اليوم يعيش معارك طاحنة, والجماعات "الارهابية" حسب التصنيف الأمريكي في أوج قوتها, وافغانستان تعيش في حرب داخلية مرافقة للتدخلات الاطلسية, والقاعدة وطالبان في أوج نشاطهما بعد عقد من التدخل العسكري البري المباشر, وتسعى أمريكا اليوم الى التفاوض معهما, وافتتحت قطر مكتباً لطالبان في الدوحة.
العراق الذي لم نكن نسمع اساساً بوجود جماعات جهادية فيه, أصبح أرضاً خصبةً لتلك المجموعات, بل واُدخل العراق في فتن طائفية ومذهبية, بعد ان تم القضاء على ثقافة العيش المشترك التي سادت العراق لقرون بين مختلف الأديان والمذاهب, ونفس المخطط اليوم يتم تنفيذه في سوريا وبنفس الشعارات " النبيلة" مع اختلافها الا أن " النُبل" يجمعها.
أطلب من أصحاب منطق المصلحة أن يأتوا لي بنموذج واحد فقط لحرب أمريكية على "الارهاب" نجحت في بلد اسلامي, أو حتى حققت نتائج جيده, وخففت من وجود تلك المجموعات.
هناك نماذج تم فيها السيطرة على بعض تلك المجموعات, كما حصل في مصر والجزائر وليبيا وغيرها من الدول - مع اختلاف الظروف في كل دولة - والسبب يعود الى ان تلك الأنظمة رفضت أي تدخلات خارجية علنية, وأصرت على معالجة تلك المشكلات بطريقتها الخاصة.
أثبتت الدراسات والأبحاث العلمية أن التدخلات الأمريكية تحت مسمى مكافحة الارهاب أتت بنتائج عكسية, خصوصاً في البلدان الاسلامية, وأعطت تلك الجماعات زخماً شعبياً, ومبرراً للتواجد والانتشار, لأن الثقافة الاسلامية المترسخة في تلك البلدان - شئنا أم أبينا - لا تتقبل التدخلات الأجنبية تحت أي مسمى.
في اليمن كذلك لم تكن هناك قاعده, وحتى لو وجد بعض الجهاديين فلم تكن معركتهم داخلية, مشاركة نظام صالح في ما يسمى بمكافحة الارهاب جر اليمن الى مربع المواجهات, واليوم وبعد عقد من الحرب على القاعدة, وسنوات من الضربات الأمريكية, نلاحظ أن القاعدة في توسع وازدهار, وكل يوم تجد لها موطئ قدم جديد في اليمن, فمقتل الكثير من المدنيين يدفع بالكثير من القبائل للتعاطف مع القاعدة ومن ثم الانضمام اليها وهكذا, التدخل الأمريكي يُوجِد مُبَرر للقاعدة للبقاء وليس العكس.
لن أخوض نقاشاً مع اصحاب منطق المصلحة حول من صنع القاعدة وبَنَاتِها ومن مولها ؟ ومن يستخدمها اليوم في سوريا ويدعمها بالسلاح ؟ في نفس الوقت الذي يدعي أنه يحاربها في مناطق أخرى!!
لكنني سأطلب من أصحاب ذلك المنطق وفي اليمن تحديداً, أن ندرس جميعاً موضوع الحرب الامريكية على ما يسمى بالإرهاب, دراسة علمية بحثية, وفق منطق مصلحة اليمن لا غير, ونعمل على تكليف لجنة من خبراء في علم الاجتماع والأمن وعلم النفس وغيرها من التخصصات التي قد تفيد في بحث ظاهرة الارهاب في مجتمعنا, لتدرس تلك الظاهرة الدخيلة على مجتمعنا اليمني, وتحدد لنا اسبابها, وطرق معالجتها, ومدى فائدة الضربات الأمريكية, وغيرها من الامور, ثم تقدم تلك اللجنة تقريرها, ليتم وفقاً لذلك تحديد السياسة الرسمية في التعامل مع تلك الظاهرة.
هناك رغبة سعودية أمريكية في بقاء القاعدة في اليمن, فالسعودية تريد مقاتلة أعضاء القاعدة النجديين والحجازيين على أراضينا, وبقاء مناطق في اليمن خارج سيطرة الدولة يدفع بهؤلاء للهجرة لليمن, وأمريكا تريد التواجد في اليمن لموقعه الجغرافي, فبعد المواجهات العنيفة التي دفعتها الى الخروج من العراق وتدفعها للخروج أيضاً من أفغانستان, تعتبر اليمن البلد المُرشح لاستقبال القوات الأمريكية, وبموافقة رسمية, وكل ذلك بدعوى محاربة الارهاب.
التعامل مع القاعدة من مطلق أمني فقط خطأ, تلك الظاهرة لها ابعاد اجتماعية واقتصادية ودينية وسياسية .
التعامل مع ملف الإرهاب وفقاً للأجندات والتعريفات الأمريكية خطأ أيضاً, يجب أن نتعامل مع ذلك الملف كملف يمني ووفقاً لمصلحة اليمن أولاً.
يظهر أن القبول بالتدخل الأمريكي في اليمن أصبح شرطاً على القوى السياسية للوصول الى السلطة أو المشاركة فيها, لذلك نلحظ تغير شعارات تلك الجهات التي كانت تندد الى قبل سنتين فقط بالضربات الجوية الأمريكية, بل و انتقلت الى الضفة الأخرى تماماً, وأصبحت تُنَظِر لها وتدافع عنها وتشرعن لها, وكل ذلك وفقاً لمنطق مصلحة اليمن.
اعتقد أن مشكلتنا الرئيسية أن تلك التيارات تخلط - عن عمد - بين مصلحة اليمن ومصلحتها في الوصول الى السلطة.
" نقلاً عن صحيفة الأولى " |